بعد 5 أعوام من القمع.. تدهور حقوق الإنسان في بيلاروسيا مشهد يزداد قتامة
بعد 5 أعوام من القمع.. تدهور حقوق الإنسان في بيلاروسيا مشهد يزداد قتامة
مرت خمس سنوات على احتجاجات 2020 التي انطلقت بعد انتخابات مثيرة للجدل، ومنذ ذلك الحين تحوّل قمع المعارضة في بيلاروسيا إلى سياسة دولة منظّمة، فلم تقتصر السلطات على محاصرة الحراك المدني سياسياً فقط، بل صاغت أدوات قمع قضائية وإداريّة وأمنية، طالت النشطاء والصحفيين والمحامين وأفراد عائلاتهم، حتى بات حيز كبير من الحياة العامة محفوفاً بالخوف والتهديد، ووصفت تقارير وخبراء مستقلون المشهد بأنه أسوأ أزمة حقوقية في أوروبا المعاصرة وفق منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش.
منظمات حقوقية محلية، وعلى رأسها مركز فياسنا لحقوق الإنسان، وثّقت مئات الآلاف من حالات القمع منذ صيف 2020، في بيلاروسيا فيما يقبع اليوم نحو ألف ومئة سجين سياسي خلف القضبان، بينهم قضاة وناشطون وصحفيون وأطباء ومدافعون عن حقوق الإنسان، في حين تستمر المحاكمات الجماعية والأحكام الجائرة، هذه الأرقام التي تضاعفت بشكل كبير مقارنة بما قبل 2020 لا تمثل مجرد إحصاء، إنها دليل على سياسة ممنهجة لإسكات أي صوت معارض أو مستقل داخل البلاد وفق "spring96".
وجوه الانتهاكات
شهادات وملفات التحقيق التي جمعتها منظمات حقوقية تشير إلى انتشار التعذيب والضرب وظروف الاحتجاز اللاإنسانية، فضلاً عن ممارسات الضغط على عائلات المعتقلين وعمليات طرد قسري لسجناء سياسيين خارج الأراضي البيلاروسية، وقد رصدت تقارير أممية مستقلة أيضاً حالات إحلال للمريضات والمحتجزين في وحدات الصحة النفسية؛ للضغط عليهم سياسياً. ما يزيد المأساة هو استمرار الإفلات من العقاب؛ خمس سنوات مرت دون فتح تحقيقات جدّية في جرائم التعذيب أو وفاة سجناء سياسيين داخل السجون وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية.
حرية التعبير في بيلاروسيا تعرضت لسحق ممنهج، فالصحفيون المستقلون ملاحقون، ومؤسسات إعلامية أُغلقت أو وُضعت تحت الرقابة، وجرائد ومواقع إلكترونية حُظرت أو صُودِرَت ممتلكاتها، وفي قضايا حديثة تتابعها المنظمات الدولية حُكم على عدد من الصحفيين بعقوبات صارمة بتهم تتراوح بين "الخيانة" و"الإفشاء"، مؤشرات على سياسة تُعامل الإعلام المستقل كأنه تهديد أمني. وفي المقابل، منظمات المجتمع المدني التي كانت تُقدّم خدمات قانونية وإغاثية تواجه حظر العمل أو تُصنّف "عناصر متطرّفة" أو تُسجَّل باعتبارها منظمات غير مشروعة، وفق منظمة "هيومن رايتس ووتش".
ردود الفعل الدولية
المجتمع الدولي استجاب بإدانات، وبحِزَمٍ رقابية وقيود دبلوماسية، شملت حزم عقوبات وتجميد أصول وحظر سفر ضد مسؤولين وكيانات مرتبطة بالقمع، وطالبت الأمم المتحدة بتقارير وإرسال خبراء، وأصدر مجلس حقوق الإنسان تقارير توثيقية، في حين دعت جهات مثل الاتحاد الأوروبي ودول غربية إلى الإفراج الفوري عن السجناء السياسيين، إلا أن هذه الإجراءات، رغم أهميتها، لم تُقنع المدافعين عن حقوق الإنسان بأنها تكفي: المحاسبة الجزئية ليست بديلاً عن تحقيق دولي مستقل يسعى إلى مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات الأكثر جسامة.
القمع المنهجي أوجد في بيلاروسيا موجة نزوح وتهجير داخلي وخارجي، مئات الآلاف فرّوا إلى دول الجوار وأوروبا، ما ترك أثراً على الأسر والمجتمعات المحلية وعلى سوق العمل، وعصفت التضييقات أيضاً بمؤسسات التعليم والعدالة وعبّأت حالة خوف واسعة أثّرت سلباً على الصحة النفسية للمجتمع برمته، وكان الأثر طويل الأمد في فقدان الكفاءات، ضعف النقاش المدني، وإصابة النسيج الاجتماعي بجرح يصعب التئامه بدون إجراءات مصالحة حقيقية ومساءلة بحسب "هيومن رايتس ووتش".
الإطار القانوني الدولي
بموجب التزاماتها الدولية، تخضع بيلاروسيا لمبادئ حقوق الإنسان المنصوص عليها في معاهدات متعددة، وعلى رأسها الإعلان العالمي والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، بالإضافة إلى توصيات آليات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، هذه المعايير تفرض على الدول حماية حرية التعبير، فرض قواعد الاحتجاز الإنساني، منع التعذيب، وضمان محاكمات عادلة. المدافعون عن العدالة الدولية يؤكدون أن ثمة حاجة الآن إلى آليات تحقيق دولية مستقلة تُوثّق الانتهاكات وتقدّم توصيات قابلة للتنفيذ، بما في ذلك إحالات إلى محاكم جنائية وطنية أو آليات دولية إذا لزم الأمر. وفق وثائق الأمم المتحدة والمفوضية السامية لحقوق الإنسان.
بيلاروسيا أمام مفترق؛ إما الانخراط الفعلي في آليات الإصلاح، أو استمرار العزلة الدولية وتعمّق الأزمة الداخلية، المطلوب عملياً وفق المنظمات الحقوقية، إطلاق سراح فوري وغير مشروط للسجناء السياسيين، فتح تحقيقات مستقلة في مزاعم التعذيب والوفاة داخل السجون، ضمان عودة الهيئات الحقوقية والإعلامية المنتظمة إلى العمل، ورفع القيود التي تقوّض استقلال القضاء. وعلى الصعيد الدولي، ينبغي توسيع التعاون الوثيق بين هيئات الأمم المتحدة والدول المعنية لتفعيل آليات مراقبة ملزمة، وربط الحوار السياسي بخطوات ملموسة للحماية والمحاسبة.
وتؤكد المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن العدالة ليست مسألة أرقام وأحكام، وإنما هي استرداد كرامة مجتمعٍ ذُبحَت حريته على مذبح الخوف، لافتة أن إنقاذ بيلاروسيا من مستنقع القمع يتطلب أكثر من تصريحات إدانة حيث يحتاج إلى إرادة دولية متّسقة، وقنوات دعم للمجتمع المدني والناجين، وآليات لمصالحة حقيقية تُغلق باب الانتقام وتفتح نافذة للمواطنة المتساوية.